كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد.. يواجههم بكلمة واحدة: {وخلقهم}..
وهي لفظة واحدة، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور! فإذا كان الله سبحانه هو الذي {خلقهم} فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية؟!
ولم تكن تلك وحدها دعواهم. فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف. بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم}.
و{خرقوا} أي: اختلقوا.. وفي لفظها جرس خاص وظل خاص؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق!
خرقوا له بنين: عند اليهود: عزير. وعند النصارى: المسيح: وخرقوا له بنات. عند المشركين: الملائكة. وقد زعموا أنهم إناث.. ولا يدري أحد طبعًا لماذا هم إناث! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.. فكلها {بغير علم}..
{سبحانه وتعالى عما يصفون}..
ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}.
إن الذي يبدع هذا الوجود إبداعًا من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف!؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين، وعون الضعفاء، ولذة من لا يبدعون!
ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر.. أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه.. فكيف يكون لله ولد- وليست له صاحبة- وهو سبحانه مفرد أحد، ليس كمثله شيء. فأنى يكون النسل بلا تزاوج؟!
وهي حقيقة، ولكنها تواجه مستواهم التصوري؛ وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم!
ويتكئ السياق- في مواجهتهم- على حقيقة الخلق لنفي كل ظل للشرك. فالمخلوق لا يكون أبدًا شريكًا للخالق. وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق: كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلاّ أوهام وظنون: {وخلق كل شيء}.. {وهو بكل شيء عليم}..
وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله خلق كل شيء، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله سبحانه بنين وبنات، أو أن له شركاء الجن- وهو خلقهم- فإنه يتكئ على هذه الحقيقة مرة أخرى. لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء، فلا إله إذن غيره، ولا رب إذن سواه: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}..
إن تفرد الله سبحانه بالخلق، يفرده سبحانه بالملك، والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق. فهو خالق خلقه ومالكهم، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه. فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله.. فإذا تقررت هذه الحقائق.. الخلق والملك والرزق.. تقرر معها- ضرورةً وحتمًا- أن تكون الربوبية له سبحانه. فتكون له وحده خصائص الربوبية- وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يُخضع له ويطاع، والنظام الذي يتجمع عليه العباد- وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها. ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام.
ولم يكن العرب- في جاهليتهم- ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون، وخالق الناس، ورازقهم كذلك من ملكه، الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد!.. وكذلك لم تكن الجاهليات الأخرى تنكر هذه الحقائق- على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق!- ولم تكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيام الإغريق.. لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربية إلا الانحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة- مع الله- على سبيل الزلفى والقربى من الله!- وإلا الانحراف في تلقي الشرائع والتقاليد التي تحكم حياة الناس.. أي أنه لم يكن يواجه الإلحاد في وجود الله سبحانه كما يقول اليوم ناس! أو كما يتبجحون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير!
والحق أن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة.
وسيظلون قلة. إنما الانحراف الأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية. وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياة من غير الله.. وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية، وكل الجاهليات أيضًا!
والقلة الشاذة التي تجادل في وجود الله اليوم لا تعتمد على العلم وإن كانت هذه دعواها. فالعلم البشري ذاته لا يملك أن يقرر هذا الإلحاد ولا يجد عليه دليلًا لا من هذا العلم ولا من طبيعة الكون.. إنما هي لوثة سببها الأول الشرود من الكنيسة وإلهها الذي كانت تستذل به الرقاب من غير أصل من الدين.. ثم نقص في التكوين الفطري لهؤلاء المجادلين، ينشأ عنه تعطل في الوظائف الأساسية للكينونة البشرية.. كما يقع للأمساخ من المخلوقات.
ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضًا- لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله- إذ كان الجدال في وجوده تعالى سخفًا لا يستحق من جدية القرآن العناية به- إنما كانت تساق لرد الناس إلى الرشاد، كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها؛ وعبادته وحده بلا شريك..
مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضًا- تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله سبحانه بالحجة الدامغة التي لا يملكون بإزائها إلا المراء. وإلا التبجح الذي يصل إلى حد الاستهتار في كثير من الأحيان!
جوليان هاكسلي مؤلف كتاب: الإنسان يقوم وحده وكتاب الإنسان في العالم الحديث من هؤلاء المتبجحين المستهترين؛ وهو يقذف بالمقررات التي لا سند لها إلا هواه وهو يقول في كتاب الإنسان في العالم الحديث؛ في فصل: الدين كمسألة موضوعية ذلك الكلام!
ولقد أوصلنا تقدم العلوم والمنطق وعلم النفس إلى طور أصبح فيه الإله فرضًا عديم الفائدة، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا، حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد أول سبب أو أساسًا عامًا غامضًا.
وول ديورانت مؤلف كتاب مباهج الفلسفة يقول: إن الفلسفة تبحث عن الله، ولكنه ليس إله اللاهوتيين الذين يتصورونه خارج عالم الطبيعة. بل إله الفلاسفة؛ وهو قانون العالم وهيكله، وحياته ومشيئته. وهو كلام لا تستطيع إمساكه! ولكنه كلام يقال!
ونحن لا نحاكم هؤلاء الخابطين في الظلام إلى قرآننا، ولا نحاكمهم كذلك إلى عقولنا المنضبطة بهدى هذا القرآن. إنما نكلهم إلى أندادهم من العلماء وإلى العلم البشري الذي يواجه هذه القضية بشيء من الجد والتعقل.
يقول جون كليفلاند كوتران: (من علماء الكيمياء والرياضة. دكتوراه من جامعة كورنيل. رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث). من مقال: النتيجة الحتمية من كتاب: الله يتجلى في عصر العلم: فهل يتصور عاقل، أو يفكر، أو يعتقد، أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين، ثم فرضته على نفسها؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبيًا. بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة أو تتحول الطاقة إلى مادة، فإن كل ذلك يتم طبقًا لقوانين معينة. والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة التي وجدت قبلها.
وتدلنا الكيميا على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء؛ ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية. ومعنى ذلك أيضًا أنها ليست أزلية. إذ أن لها بداية. وتدل الشواهد من الكيميا وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل وجدت بصورة فجائية. وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد. وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لابد أن يكون مخلوقًا. وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان.
فإذا كان هذا العالم المادي عاجزًا عن أن يخلق نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها، فلابد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي. وتدل الشواهد جميعًا على أن هذا الخالق لابد أن يكون متصفًا بالعقل والحكمة. إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي- كما في ممارسة الطب والعلاج السيكلوجي- دون أن يكون هنالك إرادة. ولابد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجودًا وجودًا ذاتيًا.. وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقًا فحسب، بل لابد أن يكون هذا الخالق حكيمًا عليمًا قادرًا على كل شيء، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره؛ ولابد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود، تتجلى آياته في كل مكان. وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله، خالق هذا الكون وموجهه- كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال.
إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل، ما قاله من قبل، من أننا إذا فكرنا تفكيرًا عميقًا، فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله.
ويقول فرانك أللن عالم الطبيعة البيولوجية في مقال نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد من الكتاب نفسه:
كثيرا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق. ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود، فكيف نفسر وجوده؟.. هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال- وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده- وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم. وإما أن يكون أزليًا ليس لنشأته بداية. وإما أن يكون له خالق.
أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهمًا من الأوهام، ليس له ظل من الحقيقة. ولقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيرًا سير جيمس جينز، الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي، وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعًا لهذا الرأي نستطيع أن نقول: إننا نعيش في عالم من الأوهام! فمثلًا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات؛ وبها ركاب وهميون، وتعبر أنهارًا لا وجود لها، وتسير فوق جسور غير مادية.. إلخ. وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال!
أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم، بما فيه من مادة وطاقة، قد نشأ هكذا وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفًا وحماقة؛ ولا يستحق هو أيضًا أن يكون موضعًا للنظر أو المناقشة.
والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون- وذلك في عنصر واحد هو الأزلية- وإذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق، وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر. ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًا. وأنها سائرة حتمًا إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض، هي الصفر المطلق؛ ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق، بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة، والنجوم المتوهجة، والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث.. ومعنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلي، ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولابد أن يكون هذا الكون من صنع يديه.
الله- سبحانه خالق كل شيء. لا إله إلا هو..
هذه هي القاعدة التي يقيم عليها السياق القرآني هنا وجوب عبادة الله وحده. ووجوب ربوبيته وحده- بكل مدلولات الربوبية من الحكم والتربية والتوجيه والقوامة: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}..
فهي القوامة لا على البشر وحدهم، ولكن على كل شيء كذلك.. بما أنه هو خالق كل شيء.. وهذا هو المقصود من تقرير تلك القاعدة، التي لم يكن المشركون- في جاهليتهم- يجحدونها. ولكنهم ما كانوا يسلمون بمقتضاها. وهو: الخضوع والطاعة لحاكمية الله وحده والدينونة لسلطانه بلا شريك..
ثم تعبير عن صفة الله سبحانه، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفًا، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله، بما يطمئن ويروح، ويشف شفافية النور: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}..
إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله، كالذين يطلبون في سماجة دليلًا ماديًا على الله! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون!
إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك.. كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون، والقيام بالخلافة في الأرض.. وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق.. فأما ذات الله سبحانه فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها. لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي. فضلًا على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض. وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها..
وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين. ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين! إن هؤلاء يتحدثون عن الذرة وعن الكهرب وعن البروتون وعن النيوترون. وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهربًا ولا بروتونًا ولا نيوترونا في حياته قط. فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات.. ولكنها مسلمة من هؤلاء، كفرض، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثارًا معينة تقع لوجود هذه الكائنات. فإذا وقعت هذه الآثار (جزموا) بوجود الكائنات التي أحدثتها! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو احتمال وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها!.. ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله سبحانه عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضًا على العقول! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويطلبون دليلًا ماديًا تراه الأعين.. كأن هذا الوجود بجملته، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل!